لا أستطيع مقاومة الدخول إلى المقابر كلما مررتُ بها في مدينة أو دولة جديدة. تبدو لي المقابر أشبه بمرآة صامتة لثقافات الشعوب: مواقع المقابر وتصميمها، كيف يودّعون موتاهم؟ هل يكتبون على قبورهم؟ هل يؤمنون بحياة أخرى بعد الموت؟ هل يخلّدون أسماءهم بتماثيل ونقوش؟ أم يحرقونهم أم يوارونهم ببساطة في التراب؟
من طريقة الدفن، وشكل القبور، والمعلومات الموجودة (إن وُجدت أصلًا)، يمكنك أن تدرك الكثير عن شعب أو طائفة ما. تعرف أيضًا عن الميت، حيث إن كثيرًا منهم يُدفنون بطريقة تمنّوها قبل مماتهم.
زرت مؤخرًا مقبرة بريفيل في نانسي الفرنسية، وقضيت بعض الوقت أتأمل القبور والزائرين. رأيتُ مسنّة تبدو في الثمانينيات من عمرها أو أكثر، تُطيل الحديث نحو قبر. لم أستطع أن أعرف ماذا كانت تقول، هل كانت صلوات أم كانت تتحدث إلى عزيز مضى بلا رجعة؟ تعمدت المشي بجوارها والقيت التحية "بونجور". لم تسمعني في المرة الأولى، فأعدتها عندما اقتربت منها أكثر. "بونجور، مسيو" ردّت بلطف ونظرة سريعة نحوي، ثم عادت تكمل ما كانت تقوله بهدوء. أغلب الزوار كانوا من كبار السن بالمناسبة.
في المقبرة، كل شيء مختصر. القصص ملقاة أمامك بصيغة مباشرة: اسم، تاريخ ولادة، وتاريخ وفاة... والباقي عليك أن تتخيله.
قبر لعائلة مع أطفالها الذين مات اثنان منهم في عمر صغير. يا ترى، كيف ماتوا؟ مرض؟ أم حادث سير؟ لقد عاش ابنهم الثالث طويلًا معهم.
أزواج ماتوا بفارق أشهر. هل لحق أحدهم بالآخر حزنًا؟
عائلة كاملة من سبعة أشخاص انتهت في أعوام متقاربة.
زوجان عاشا قرابة القرن، كم من التاريخ مرّ من أمامهم؟ وكم دفنوا من أحباب لهم؟
شاهد قبر متآكل محفور عليه ما معناه "لن تُنسى"، وفوقه الكثير من التراب.
قبور جديدة بجانب أخرى قديمة متهالكة، هل الحياة تُزاحم الموت بطريقة ما؟
شدّني أيضًا قبر بلا شاهد قبر وبلا اسم. كأن صاحبه أدار ظهره للعالم بلامبالاة.
بعض القبور مُعتنى بها كأنّ أحدهم زارها مؤخرًا. وبعضها مهمَلة تمامًا، كأن الزمن قرّر أن يُنهي الأمر من طرف واحد. وربما ببساطة، لم يتبقَّ من يتذكّر.
شخصيًا، تشدني فكرة المقابر البسيطة، كما تراها الفكرة السلفية مثلًا (وهي موجودة بالمناسبة أيضًا في أديان أخرى): القبر بلا تزيين، بلا مقاومة للزمن. هذه الرؤية تحمل شيئًا ينسجم مع حقيقة لا مهرب منها في حياتنا نحن البشر: أننا كائنات فانية.
---------------------
فلم للمشاهدة
Loveable (Elskling)
فيلم Loveable أو بالنرويجية (Elskling) يحكي قصة ماريا، امرأة في الأربعين، متزوجة وأم لأربعة أطفال، تصل إلى لحظة الانفصال عن زوجها بعد سنوات من التوازن الهش.
على السطح، يحاول الفيلم تسليط الضوء على زوايا متعددة في قصة الانفصال: أين تكمن جذور المشكلة؟ وما الذي تراكم بصمت حتى بلغ النهاية؟
أما في العمق، فستجد أن الفيلم ليس تحديدًا عن الانفصال، بقدر ما هو عن العودة إلى الذات — عن امرأة تحاول أن تكتشف من تكون وسط فوضى العائلة، وضغط العمل، والذكريات الثقيلة.
وهو أيضًا بورتريه مباشر لجزء من الحياة الغربية، يُظهرها كما هي: جافة ، مادية، باردة العاطفة.
”للحديث بقية“ هي رسائل شخصية أشارك فيها لحظات من يومياتي، وتأملات هادئة، ومحادثات مع الذات، وصور مرئية، وموسيقى، وأي شيء آخر أجده يستحق القراءة أو التفكير فيه.
سيبقى صندوق الوارد الخاص بك هادئًا. لا تتوقع أكثر من رسالة إلى أربع رسائل إلكترونية شهرياً. وبالطبع، سيبقى بريدك الإلكتروني خاصاً. دائماً.
متى كانت آخر مرة استمعت فيها إلى الضجيج؟ إلى أصوات المارة أو إلى حديث الناس في الأماكن العامة؟ بهدوء واستمتاع ودون مشتتات؟ بدأت علاقتي بالاستماع الطويل أثناء التنقل، من البودكاستات الصوتية إلى الكتب المسموعة. كانت البداية مع رحلات القطار التي أستخدمها بشكل دوري، ثم تحوّل الأمر إلى روتين يومي حتى أثناء المشي أو ركوب الدراجة. ولا أنكر أني استمتعت بهذه الرفقة (وما أزال). كتب عديدة ما كنت لأطّلع على محتواها لولا الكتب الصوتية، والكثير من الحوارات والمقابلات.
بشكل عام، تشدني قصص التحوّلات الفكرية، الناس الذين يغيّرون قناعاتهم بشجاعة، أيًا كان الاتجاه. يدهشني وقوفهم ضد التيار والتحدث بصراحة عن ما هم عليه وما يؤمنون به، خصوصًا في القضايا الحساسة كالدين.أؤمن أن لكل إنسان رحلته الخاصة، تتأثر بخبراته، مصادفاته، وتأملاته الداخلية. أتحدث هنا عن من ينطلقون بهدوء، من منطلق بحثي متجرّد، يبنون قناعاتهم تدريجيًا وبشكل واعٍ. بالمقابل، لا أميل إلى التغيّرات الجذرية الغاضبة، تلك التي تحدث كردّة فعل حادّة على ظرف أو تجربة. غالبًا ما أُشكّك في دوافع أصحابها، حتى لو كانت هذه التحولات من شيء يبدو خاطئًا إلى آخر يبدو صائبًا. فالتغيير الحقيقي في رأيي، يُبنى على مهل ويستغرق الكثير من الجهد، ويحتاج إلى مساحة من التأمل لا إلى لحظة انفعال عابرة.