أنا من المؤمنين بالصداقة، حتى برغم الخذلان الذي قد يحدث من بعض الأصدقاء. لا أنكر أن هناك شيئًا من المصادفة في الصداقات بشكل عام، أي أنها تبدأ في تقاطعات لا نختارها، ولكن هناك أيضًا نوع من الجاذبية الخفية. ما ترسله روحك نحو الآخرين هو ما تحصل عليه، بشكلٍ ما، حتى من أناس لا تتوقعهم أحيانًا.
أظن أن إيماني بالصداقة وقوتها ومتانتها ترسخ أثناء نشأتي من خلال ملاحظتي لأصدقاء أبي. كان أبي شخصًا ودودًا جدًا مع الآخرين، خصوصًا عندما تقدم به العمر. وكان لديه صديق اسمه محمد عقيل. بدأت صداقتهما أثناء الدراسة في مدينة زبيد، التي كانت قبلة للباحثين عن العلوم الشرعية في اليمن. فرقتهما الأيام لاحقًا: العم محمد عاش واستقر في مدينة الحُديدة، وأبي أخذته الحياة إلى فرنسا ثم القاهرة ثم السعودية، قبل أن يعود ليستقر في صنعاء لاحقًا. كانت لهما لقاءات هنا وهناك، وظل التواصل والود مستمرًّا، وبشكل عجيب.
قصة البيت
عاش أبي في منتصف الثمانينات في السعودية أثناء عمله كدبلوماسي هناك، وكانت تلك الفترة تشكل مصدر دخل جيد. وتحت إلحاح أمي وإصرار محمد عقيل، صار لنا بيت في صنعاء. كيف؟
أقنع العم محمد أبي أن يمتلك بيتًا في صنعاء، "لا يُعقل أن تعود من الغربة لتعيش في بيوت الإيجار". كان أبي من النوع الذي يتجنب المشاكل والصداع، حيث إن شراء قطعة أرض في صنعاء كان دائمًا مغامرة محفوفة بالمخاطر، خصوصًا عندما تكون بعيدًا عنها، فضلًا عن كونك شخصًا مسالما من تهامة بلا قبيلة.
عرض العم محمد على أبي أن يشتري الأرض معه شراكة، كنوع من التشجيع والتطمين، وتم الأمر. بدأ أبي بتحويل قيمة البناء تدريجيًا، وكان محمد عقيل هو من يتولى الإشراف على كل شيء، من الزيارات الدورية من الحديدة إلى صنعاء، إلى التنسيق مع صديق آخر لوالدي يسكن بالقرب من المنطقة.
قال أبي إن ما أرسله من أموال لم يكن يكفي مقابل جودة البيت الذي حصلنا عليه في النهاية. وقد اكتشف أن محمد عقيل عدّل في مواصفات البناء والتشطيب، ودفع من أمواله ليكون البيت كما ينبغي.
اعتبر أبي المبلغ المضاف دَينًا لفترة من الزمن، إلا أن صديقه غضب بشدة عندما تحدّث إليه ذات مرة بالأمر.
لم يكن العم محمد شخصية اجتماعية مع الآخرين، رغم بساطته، ولم يكن يتفق مع والدي في ميوله السياسية. لكنه خلاف لم يمسّ الودّ بأي حال.
كان العم محمد يظهر في بيتنا قادمًا من الحديدة بلا مناسبة، سوى أنه يرغب في زيارة أبي لبعض الأيام، ثم يختفي مجددًا إلى حين. وكان والدي بالمقابل، عندما يذهب في رحلة لزيارة إخوانه وأهله في مدينة زبيد، يمرّ بالحديدة لزيارة العم محمد، كمحطة توقف لا تقبل النقاش. بل، وفي أغلب المرات التي كنا نذهب فيها إلى زبيد لنقضي بعض الأيام في العيد مثلًا، كان هناك يوم خاص يأتي فيه العم محمد ليشاركنا، ثم يمضي نهاية اليوم عائدًا إلى مدينته.
ظلّ العم محمد يزور أبي من وقتٍ لآخر، حتى بعد أن تقدّم العمر به وقلّت حركة والدي بسبب المرض. استمرّت هذه الصداقة إلى أن فرّق الموت بينهما. زار العم محمد بيت أبي بعد وفاته لمرةٍ وحيدة، ولم يعد بعدها أبدًا. كأنها كانت محاولته لوضع خاتمة لهذه الصداقة التي امتدّت عقودًا. وافته المنية بعدها بسنوات في مدينة الحديدة.
كان العم محمد صديقًا نادرًا. لا تجمعه بوالدي مصالح، ولا يربطه به دم، بل شيء أعمق من كل ذلك: صحبة ومحبة نبيلة، ووفاء لا يطلب أي مقابل. صداقة نقية كما في الروايات.
ربما لهذا السبب، كلما سمعت أحدهم يشكك في الصداقة أو ييأس من الخذلان، أستعيد ملامح العم محمد، وأقول بثقة:
كلا، يوجد أصدقاء، برغم كل شيء.
-------------
فلم جميل للمشاهدة
The Sea Inside
البحر الذي بداخلي - يُجسّد فيه ببراعة قصة رامون سامبيدرو، الرجل الذي غيّر حادث غطس مسار حياته بالكامل. في قلب الفيلم فكرة الحرية، وتحديدًا حرية الاختيار في الحياة والموت. لكنه ليس مجرد نقاش أخلاقي أو قانوني، بل عمل إنساني عميق يعيد طرح أسئلة كبرى عن المعنى، الكرامة، الحب، والوجود.
نال الفيلم جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي لعام 2005، إلى جانب العديد من الجوائز العالمية الأخرى، بفضل أداء مدهش وموسيقى آسرة وسيناريو يجمع بين الألم والجمال بتوازن نادر.
”للحديث بقية“ هي رسائل شخصية أشارك فيها لحظات من يومياتي، وتأملات هادئة، ومحادثات مع الذات، وصور مرئية، وموسيقى، وأي شيء آخر أجده يستحق القراءة أو التفكير فيه.
سيبقى صندوق الوارد الخاص بك هادئًا. لا تتوقع أكثر من رسالة إلى أربع رسائل إلكترونية شهرياً. وبالطبع، سيبقى بريدك الإلكتروني خاصاً. دائماً.
خمس سنوات مرت على ماسمي الربيع العربي وماتزال كثير من الأحداث تمضي بتسارع غريب ككرة ثلج تأبى التوقف مهما ارتطمت بالأشجار. كان الربيع عبارة عن زلزال قام بهز وغربلة الافكار والقناعات واعادة تشكيل لوعي جديد عند مجموعة كبيرة من الناس وأنا أحدهم.
قرأت ذات مرة عن الوجع الذي قد تسببه "الذكريات الجميلة" وبقدر ما أدركت ذلك من خلال التأثير التي تحدثه فيني مثلا رؤية الصور القديمة لمن أحب. إلا أن الأمر يأخذ تأثيرا آخر عندما تعود بجسدك وحواسك للأماكن القديمة التي سرت فيها. أن تسير وسط اكوام ذكرياتك القديمة، تجربة مميزة ومختلفة. أن تبحث عن أي أثر لنفسك التي كنت يوما.