ألف باء الحياة والبدايات من الصفر - للحديث بقية (٧)
14 Jun 2025
منذ سنوات، دار بيني وبين صحفية هولندية حديث عن المهاجرين القادمين من مناطق الحروب، وعن التحديات التي تواجههم عند محاولة بدء حياة جديدة في بلدانهم الجديدة. قالت لي جملة لم أنسها منذ ذلك اليوم:
“لا مشكلة لديّ أن أعمل في تنظيف الحمّامات إن اضطررت، طالما أن ذلك يُغطي احتياجاتي الأساسية.”
قالتها بهدوء وثقة، كما لو أنها تشير إلى أمر بديهي لا يستحق التوقف عنده.
رغم ان ذلك الحديث كان عن شيء محدد إلا أني أراه مثالاً ينطبق على أشياء أخرى كثيرة.
قد تسلب الحياة منك شيئًا عظيمًا دون سابق إنذار: مال، أو وضع اجتماعي، أو ما هو أكثر من ذلك، وتجد نفسك أمام خيارات لا تتمناها. هذا لا ينحصر على الفارين من الحروب فحسب، بل وحتى من يعيش في دول مستقرة (قصة تتكرر مهما اختلفت الظروف والجغرافيا). أزعم أني صادفت عشرات القصص لمن خسروا الكثير في حياتهم، مع اختلاف نوع ومقدار الخسارة لكل شخص. ليس الأمر بالهين ولا بالسهل، لا نفسيًا ولا عمليًا، خصوصًا عندما تكون الخسارة كبيرة. هناك دائمًا من يسقط، ثم يقف مجددًا ويواصل الطريق، وهناك من يظل في مكانه، لا لأنه لا يملك ما يكفي، بل لأنه لم يعد يؤمن أن البداية الصغيرة يمكن أن تفلح، أو لأنه ينتظر “فرصة مثالية أفضل”.
لدي قناعة يعززها الوقت، أن أسوأ ما يمكن أن تُسلبه في الحياة ليس المال ولا الفرص، بل إيمانك بالبديهيات. تلك القناعات (أو ما يسمى الكليشيهات) التي تبدو سطحية للوهلة الأولى، لكنها تحمل نَفَس البقاء:
“من جدّ وجد”، “مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة”، وغيرها. أن تسعى وتركض وتكد وتعرق على وجه هذه الأرض.
أن تبدأ من الثقب في الجدار، من الطابق السفلي للحلم، وأنت مؤمن – لا متفائل فقط – أن هذه الخطوة الصغيرة هي بداية تحوّل. أن تغسل الأطباق، أن تعمل في بقالة أو مقهى… ثم ترى إلى أين يأخذك الطريق.
الذين لم يستطيعوا النهوض مجددًا، في كثير من الأحيان، لم تنقصهم القوة ولا الذكاء، بل ذاك الانكسار الداخلي الذي يجعلهم يعتقدون استحالة البدء من جديد.
إن من لا يتقبل البدايات، لا يجيد التعلم… ولا الصبر على التعلم. فكل شيء جديد — مهارة، صنعة، لغة، حياة — يبدأ من لا شيء.
الحياة لا تطلب منك أن تكون عبقريا أو ناجحاً (مع التحفظ على تعريف النجاح)، بل أن تكون قابلًا للبداية وهذه إحدى أهم سمات البقاء والإستمرار.
أن تتعلّم كيف تبدأ… مرارًا، كلما احتاج الأمر وبدون شروط مسبقة.
فلم جميل للمشاهدة
العودة The Return - 2003*
فيلم روسي للمخرج أندري زفياغينتسيف، يروي ببساطة ظاهريّة قصة أب يعود بعد غياب 12 عامًا، ليأخذ ولديه في رحلة تتحول تدريجيًا إلى تجربة وجودية.
شخصيا أحب الأفلام التي تطرح الاسئلة وتترك مسؤلية الإجابة على المشاهد:من هو هذا الأب؟ لماذا عاد؟ ما شعور اطفاله تجاهه؟ التصوير بديع جدا.
الفيلم ليس عن العودة ذاتها، بل عن الغياب. عن هشاشة الثقة، وغياب الأمان، والرغبة المعقدة في أن نحب من لا نعرفهم تمامًا. *حصل الفلم على جائزة الأسد الذهبي – مهرجان البندقية السينمائي (2003).
”للحديث بقية“ هي رسائل شخصية أشارك فيها لحظات من يومياتي، وتأملات هادئة، ومحادثات مع الذات، وصور مرئية، وموسيقى، وأي شيء آخر أجده يستحق القراءة أو التفكير فيه.
سيبقى صندوق الوارد الخاص بك هادئًا. لا تتوقع أكثر من رسالة إلى أربع رسائل إلكترونية شهرياً. وبالطبع، سيبقى بريدك الإلكتروني خاصاً. دائماً.
مع كل رحيل لصديق يرحل جزء من ذكرياتنا واحلامنا الى الابد. مع كل رحيل تزداد الفراغات اتساعا بين خلايا الروح .. يقتلنا الرحيل المستمر .. الوجوه المتغيره حولنا دوما وباستمرار .. هذا باختصار ماينتجه نزيف الاصدقاء الأبدي في مجتمعاتنا العربية.
متى كانت آخر مرة استمعت فيها إلى الضجيج؟ إلى أصوات المارة أو إلى حديث الناس في الأماكن العامة؟ بهدوء واستمتاع ودون مشتتات؟ بدأت علاقتي بالاستماع الطويل أثناء التنقل، من البودكاستات الصوتية إلى الكتب المسموعة. كانت البداية مع رحلات القطار التي أستخدمها بشكل دوري، ثم تحوّل الأمر إلى روتين يومي حتى أثناء المشي أو ركوب الدراجة. ولا أنكر أني استمتعت بهذه الرفقة (وما أزال). كتب عديدة ما كنت لأطّلع على محتواها لولا الكتب الصوتية، والكثير من الحوارات والمقابلات.