شاهدتُ مؤخرًا تسجيلًا لحوارٍ بين ابنٍ وأب. الابنُ يُعاتب ويطرح أسئلة مؤجّلة، والأبُ يُقرّ بتقصيره، لكنه لا يملك إجابة. بدا كأنه خسر شيئًا لا يعرف كيف يستعيده. الموقف هزّني. ربما لأني أُحبّ والدي حبًّا عميقًا، وربما - أيضًا- لأني أب، وأخشى أن يأتي يومٌ يُحاكمني فيه ابني على نَقصٍ لم أتعمده، وهو لا يعرف كم من الليالي قضيتُها سهرًا، أفكر في أمر مرّ به، أو قلقًا عليه مما قد يُقبل عليه.
في زمن المقاطع الملهمة، والحوارات المرتبة بعناية، صار يُتوقّع من الآباء أن يكونوا على قدر الخيال الجمعي: حاضرين دومًا، عاطفيين بالفطرة، متقنين للشرح والاعتذار. لكن الحقيقة؟ الأبوة ليست نصًّا محفوظًا، وليست عرضًا مُنتجًا للتأثُّر اللحظي.
ماذا عن الآباء العاديين؟ أولئك الذين لا يملكون ترف التعبير، الذين لا يعرفون كيف يُجيبون عندما لماذا فعلت كذا؟” أو “لماذا لم تكن هناك؟” ماذا عن الذين لم يصنعوا المعجزات، لكنهم فعلوا ما استطاعوا، بصمت، بتعب، بمحاولات لا يراها أحد، وبتكرارٍ ممل؟
صارت الحكايات التي يُعاتَب فيها الأب شائعة، وغالبًا ما تُروى من زاوية واحدة. في ظلّها، يُقسَّم الآباء إلى صنفين: مثالي أو فاشل. والواقع أعقد من ذلك. هناك آباء لم يقرأوا كتب الأبوة الحديثة، ولم يتعلموا كيف يقولون “أنا أحبك” بالطريقة الصحيحة، لكنهم قالوها بطرقهم: في الحضور حتى وإن كان بصمت، في تعبهم، في محاولتهم ألا تتوقف السفينة.
كثيرٌ من الآباء الجيدين لا يتقنون اللغة التي نحب سماعها، لا لأنهم لا يملكون مشاعر، بل لأنهم مرهقين. انشغلوا بما يمكنهم فعله، ولم يسعهم أن يصوغوا ذلك في كلمات. وعندما يأتي السؤال بعد سنوات، لا يجدون في ذاكرتهم سوى تعبٍ قديم، لا يمكن تلخيصه في جملة واحدة.
إنّ عظمة بعض الآباء تكمن في كونهم عاديين. لم يُنقذوا العالم، ولم يُغيّروا مصير البشرية، لكنهم استيقظوا كل يوم، وذهبوا إلى العمل، وجلبوا الدواء والخبز، وربّوا أبناءهم بما يعرفون، وبما يستطيعون.
إنّ وجود أب بسيط، غير متعلم، أو حتى مُشتت في عالمه، لا يعني أنه أب سيئ. ولا يستحق أن تُعلّق له مشنقة بعد عشرين أو ثلاثين عامًا من العطاء، فقط لأنه قصّر أو لم يستطع أن يُقنعك بإجابة مثالية.
الآباء، في كثير من الحالات، كانوا رائعين بما هم عليه، لا بما تمنيناه نحن. لم يكونوا مثاليين، ولم يتوجّب عليهم ذلك. ومن واجبنا - كأبناء - أن نراهم كما كانوا: بشرًا بذلوا ما استطاعوا.
ربما لم يعرفوا كيف يُحبّون بالكلمات، لكنهم أحبّوا. وربما قصّروا أحيانًا، لكنهم لم يتوقفوا عن المحاولة.
وهذا، في أغلب الأحيان… يكفي تمامًا.